سورة القمر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}
ترتيباً في غاية الحسن لأنهم لما زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه أني مغلوب وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ {إِنّى} بكسر الهمزة على أنه دعاء، فكأنه قال: إني مغلوب، وبالفتح على معنى بأني.
المسألة الثانية: ما معنى مغلوب؟ نقول فيه وجوه:
الأول: غلبني الكفار فانتصر لي منهم الثاني: غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم فانتصر لي من نفسي، وهذا الوجه نقله ابن عطية وهو ضعيف الثالث: وجه مركب من الوجهين وهو أحسن منهما وهو أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو على قومه ما دام في نفسه احتمال وحلم، واحتمال نفسه يمتد ما دام الإيمان منهم محتملاً، ثم إن يأسه يحصل والاحتمال يفر بعد اليأس بمدة، بدليل قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} [الكهف: 6]، {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} [فاطر: 8] وقال تعالى: {وَلاَ تخاطبنى فِي الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27] فقال نوح: يا إلهي إن نفسي غلبتني وقد أمرتني بالدعاء عليهم فأهلكهم، فيكون معناه (إني) مغلوب بحكم البشرية أي غلبت وعيل صبري فانتصر لي منهم لا من نفسي.
المسألة الثالثة: فانتصر معناه انتصر لي أو لنفسك فإنهم كفروا بك وفيه وجوه:
أحدها: فانتصر لي مناسب لقوله مغلوب ثانيها: فانتصر لك ولدينك فإني غلبت وعجزت عن الانتصار لدينك ثالثها: فانتصر للحق ولا يكون فيه ذكره ولا ذكر ربه، وهذا يقوله قوي النفس بكون الحق معه، يقول القائل: اللهم أهلك الكاذب منا، وانصر المحق منا.


{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)}
عقيب دعائه وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز؟ نقول فيه قولان أحدهما: حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه وثانيهما: هو على طريق الاستعارة، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب، وعلى هذا فهو كما يقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل فتحت أبواب السماء، ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا} بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله، كما قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السماء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} [ياس: 28، 29] بياناً لكمال القدرة، ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: {بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} ما وجهه وكيف موقعه؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول: يفتح الله لك بخير أي يقدر خيراً يأتي ويفتح الباب، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني، وهي أن يجعل المقصود مقدماً في الوجود، ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك، وكذلك قول القائل: لعل الله يفتح برزق، أي يقدر رزقاً يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه، فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما: {فَتَحْنَا أبواب السماء} مقرونة {بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} والانهمار الانسكاب والانصباب صباً شديداً، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب.


{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)}
وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل: وفجرنا عيون الأرض، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع، إذا قلت ضاق زيد ذرعاً، أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} ولم يقل ففتحنا السماء أبواباً، لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة، ولهذا قال: {أبواب السماء} ولم يقل: أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها.
وأما قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} فهو أبلغ من قوله: وفجرنا عيون الأرض، لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوناً ثلاثة، ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل: فأنزلنا من السماء ماء أو مياهاً، ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة، والحكمة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] حيث لا مبالغة فيه، وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه، غير أني ذكرته مثلاً: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60].
المسألة الثانية: العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز؟ نقول: المشهور أن لفظ العين مشترك، والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها، أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع، أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين، فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة، كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل: شربت من العين واغتسلت منها، وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع، ويقال: عانه يعينه إذا أصابه بالعين، وعينه تعييناً، حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين، وعاينه معاينة وعياناً، وعين أي صار بحيث تقع عليه العين.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {فَالْتَقَى الماء} قرئ فالتقى الماءان، أي النوعان، منه ماء السماء وماء الأرض، فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف، تجمع أيضاً، يقال: عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور: {فَالْتَقَى الماء} وله معنى لطيف، وذلك أنه تعالى لما قال: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 11] ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة، فلما قال: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} كان من الحسن البديع أن يقول: ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة، فقال: {فَالْتَقَى الماء} أي من العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء، ولو جرى جرياً ضعيفاً لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به، ولعل المراد من قوله: {وَفَارَ التنور} [هود: 40] مثل هذا.
وقوله تعالى: {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} فيه وجوه:
الأول: على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء الثاني: على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث: على سائر المقادير، وذلك لأن الناس اختلفوا، فمنهم من قال: ماء السماء كان أكثر، ومنهم من قال: ماء الأرض، ومنهم من قال: كانا متساويين، فقال: على أي مقدار كان، والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان، فإن تنكير الأمر يفيد ذلك، يقول القائل: جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته، وفيه احتمال آخر، وهو أن يقال: التقى الماء، أي اجتمع على أمر هلاكهم، وهو كان مقدوراً مقدراً، وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي، والغرق لم يكن مقصوداً بالذات، وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه، فقال: لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8